بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم ذكر قصة بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقصة في الصحيحين ، وفيها : "أن أول ما أنزل عليه : " اقرأ باسم ربك الذي خلق " إلى قوله : " ما لم يعلم "، ثم أنزل عليه : " يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر* والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر " ".
فمن فهم أن هذه أول آية أرسله الله بها ، عرف أنه سبحانه أمره أن ينذر الناس عن الشرك الذي يعتقدون أنه عبادة الأولياء ليقربوهم إلى الله قبل إنذاره عن نكاح الأمهات والبنات ، وعرف أن قوله تعالى : " وربك فكبر " أمر بالتوحيد قبل الأمر بالصلاة وغيرها ، وعرف قدر الشرك عند الله وقدر التوحيد .
فلما أنذر صلى الله عليه وسلم الناس استجاب له قليل . وأما الأكثر فلم يتبعوا ولم ينكروا ، حتى بادأهم بالتنفير عن دينهم وبيان نقائصه وعيب آلهتهم ، فاشتدت عداوتهم له ولمن تبعه ، وعذبوهم عذاباً شديداً ، وأرادوا أن يفتنوهم عن دينهم .
فمن فهم هذا : عرف أن الإسلام لا يستقيم إلا بالعداوة لمن تركه وعيب دينه وإلا لو كان لأولئك المعذبين رخصة لفعلوا .
وجرى بينه وبينهم ما يطول وصفه ، وقص الله سبحانه بعضه في كتابه .
ومن أشهر ذلك : قصة عمه أبي طالب لما حماه بنفسه وماله وعياله وعشيرته ، وقاسى في ذلك الشدائد العظيمة ، وصبر عليها ، ومع ذلك كان مصدقاً له ، مادحاً لدينه : محباً لمن اتبعه ، معادياً لمن عاداه ، لكن لم يدخل فيه ، ولم يتبرأ من دين آبائه ، واعتذر عن ذلك بأنه لا يرضى بمسبة آبائه ، ولولا ذلك لاتبعه ، ولما مات وأراد النبي صلى الله عليه وسلم الاستغفار له أنزل الله عليه : " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " .
فيا لها من عبرة ما أبينها ؟ ومن عظة ما أبلغها ! ومن بيان ما أوضحه ! لما يظن كثير ممن يدعي اتباع الحق فيمن أحب الحق وأهله ، من غير اتباع للحق لأجل غرض من أغراض الدنيا .
قصته صلى الله عليه وسلم مع قريش حين قرأ سورة النجم
ومما وقع أيضاً : قصته صلى الله عليه وسلم معهم لما قرأ سورة النجم بحضرتهم - فلما وصل إلى قوله : " أفرأيتم اللات والعزى* ومناة الثالثة الأخرى " ، ألقى الشيطان في تلاوته : تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى ، وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً ، وتلقاها الصغير والكبير منهم ، وقالوا كلاماً معناه : هذا الذي نريد ، نحن نقر أن الله هو الخالق الرازق ، المدبر للأمور ، ولكن نريد شفاعتها عنده ، فإذا أقر بذلك فليس بيننا وبينه أي خلاف .
واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ، فلما بلغ السجدة سجد وسجدوا معه ، وشاع الخبر : أنهم صافوه ، حتى إن الخبر وصل إلى الصحابة الذين بالحبشة ، فركبوا البحر راجعين ، لظنهم أن ذلك صدق ، فلما ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاف أن يكون قاله فخاف من الله خوفاً عظيماً ، حتى أنزل الله عليه : " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " إلى قوله : " عذاب يوم عظيم " .
فمن عرف هذه القصة ، وعرف ما عليه المشركون اليوم ، وما قاله ويقوله علماؤهم ، ولم يميز بين الإسلام الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم ، وبين دين قريش الذي أرسل الله رسوله ينذرهم عنه ، وهو الشرك الأكبر: فأبعده الله ، فإن هذه القصة في غاية الوضوح ، إلا من طبع الله ، على قلبه وسمعه ، وجعل على بصره غشاوة ، فذلك لا حيلة فيه ، ولو كان من أفهم الناس ، كما قال الله تعالى في أهل الفهم الذين لم يوفقوا : " ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء " الآية .
ثم لم أراد الله إظهار دينه ، وإعزاز المسلمين : أسلم الأنصار -أهل المدينة- بسبب العلماء الذين عندهم من اليهود ، وذكرهم لهم النبي وصفته ، وأن هذا زمانه وقدر الله سبحانه أن أولئك العلماء الذين يتمنون ظهوره وينتظرونه ، ويتوعدونهم به - لمعرفتهم أن العز لمن اتبعه- يكفرون به ويعادونه ، فهو قول الله سبحانه : " ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين " .
فلما أسلم الأنصار أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان بمكة من المسلمين بالهجرة إلى المدينة ، فهاجروا إليها . وأعزهم الله تعالى بعد تلك الذلة ، فهو قوله تعالى : " واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره " الآية .