: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ الحجر : 92 - 93 ] .
وقال تعالى : (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب : 8 ]. فإذا سُئِلَ الصَّادقون وحُوسِبُوا على صِدْقِهِمْ فما الظَّنُ بالكاذِبِينَ ؟
وقال تعالى : (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ [ التكاثر : 8 ] 3.
والنعيم المسؤول عنه نوعان : نوع أخذ من حله وصرف في حقه ، فيسأل عن شكره . ونوع أخذ بغير حقه وصرف في غير حقه ، فيسأل عن مستخرجه ومصرفه
فإذا كانَ العبدُ مسؤولاً ومُحاسَباً على كلِّ شيءٍ ، حتى عَلى سَمْعِهِ وبَصَرِهِ وقَلْبِهِ ، كما قال تعالى : (إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ) 21][ الإسراء : 36 ] ؛ فهُو حقيقٌ أنْ يُحاسِبَ نفسَهُ قبلَ أنْ يُنَاقَشَ الحسابَ
وقد دلَّ على وُجوبِ محاسبة النَّفسِ قولُه تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ الحشر : 18 ] ، فأمر سبحانه العبدَ أنْ ينظر ما قدَّمَ لِغد ، وذلك يتضمَّن محاسبة نفسه على ذلك ، والنظر : هل يصلُح ما قدّمه أن يلقى الله به أو لا يصلح ؟
والمقصودُ مِن هذا النظرِ : ما يُوجبه ويقتضيه ، من كمال الاستعداد ليوم المعاد ، وتقديم ما يُنجيه من عذاب الله ، ويُبيض وجهه عند الله
وكلّ ذلكَ إنّما يمكنُ بصبرِ ساعةٍ واحدةٍ . فانّ الساعاتِ ثلاث 5: ساعةٌ مضتْ لا تعب فيها على العبد كيفما انقضت في مشقة أو رفاهية. وساعة مستقبلة لم تأت بعد لا يدري العبد أيعيش إليها أم لا ولا يدري ما يقضي الله فيها ؟ وساعة راهنة ينبغي أن يجاهد فيها نفسه ويراقب فيها ربه .
فإن لم تأته الساعة الثانية لم يتحسر على فوات هذه الساعة ، وإن أتته الساعة الثانية استوفى حقه منها كما استوفى من الأولى . ولا يطول أمله خمسين سنة فيطول عليه العزم على المراقبة فيها ؛ بل يكون ابن وقته كأنه في آخر أنفاسه فلعله آخر أنفاسه وهو لا يدري . وإذا أمكن أن يكون آخر أنفاسه فينبغي أن يكون على وجه لا يكره أن يدركه الموت وهو على تلك الحال .
وفي محاسبةِ النَّفْسِ عِدَّةُ مصالحَ
مِنْهَا: الاطِّلاعُ عَلَى عُيوبِها ونقائصها ، فيمكِنُهُ السَّعي في إصلاحها ، ومَن لَمْ يطَّلعْ عَلَى عَيْبِ نفسِهِ، لَمْ يُمْكِنْهُ إِزالَتُه، فَإِذَا اطَّلَعَ عَلَىعَيْبِها؛ مَقَتَها فِي ذاتِ اللهِ تَعَالَى
قال أبوالدرداء رضي الله عنه: " لا يَفْقَهُ الرَّجُلُ كلَّ الفِقْهِ حَتَّى يَمْقُتَ النَّاسَ في جَنْبِ اللهِ ، ثم يَرْجِعُ إلى نفسِهِ فيكونَ لها أشدَّ مَقْتاً "
وقالَ مُطَرِّفُ بنُ عبدِ اللهِ : " لولا ما أَعْلَم مِن نَفْسي لَقَلَيْتُ النَّاسَ . وقال أَيُّوبُ السَّخْتِيانِيُّ " إِذا ذُكِرَ الصَّالِحونَ كنتُ عنهُم بمَعْزِلٍ
ولما احْتُضِرَ سفيانُ الثَّوريُّ ؛ دَخَل عليهِ أبو الأشهبِ وحمَّادُ بنُ سَلَمَةَ ، فقالَ لهُ حمَّادٌ : "يا أبا عبدِ اللهِ! أَليس قد أمِنْتَ ممَّا كنتَ تخافُه ؟ وتقْدَمُ على مَن ترجوهُ ، وهو أَرْحَمُ الرَّاحمينَ . فقال : يا أَبا سلمة ! أَتَطْمَعُ لِمِثْلِي أَنْ ينجُو مِن النَّارِ؟ قَالَ : إيْ واللهِ ؛ إنِّي لأرجو لكَ ذلك
وقَالَ يُونُسُ بنُ عُبيدٍ: " إِنِّي لأجِدُ مئةَ خَصْلَةٍ مِنْ خِصالِ الخير ، ما أَعْلَمُ أَنَّ في نفسي منها واحدةً
وقال محمَّد بنُ واسعٍ "لو كانَ للذُّنوبِ ريحٌ ؛ ما قَدِرَ أحدٌ يجلِسُ إليَّ"
وذُكِرَ داودُ الطَّائِي عندَ بعض الأمراءِ ، فأَثْنَوا عليهِ ، فَقَالَ : " لو يَعْلَمُ النَّاسُ بعضَ ما نحنُ فيهِ ، ما ذلَّ لنا لسانٌ بذِكْرِ خيرٍ أبداً
وقالَ أَبو حفصٍ: (مَنْ لَمْ يَتَّهِمْ نَفْسَهُ عَلَى دَوامِ الأوقاتِ، ولم يُخالِفْها فِي جميعِ الأحوالِ، ولم يَجُرَّها إِلَى مكروهِها فِي سائِر أَوقاتِه؛كَانَ مغروراً،ومَن نَظَرَ إِلَيْهَا باستحسانِ شيءٍ مِنْهَا؛ فَقَدْ أَهْلَكَها
فالنَّفْسُ داعيةٌ إِلَى المَهالِكِ، مُعينَةٌ للأعداءِ، طامِحَةٌ إِلَى كلِّ قبيحٍ، مُتَّبِعَةٌ لكُلِّ سوءٍ، فَهِيَ تَجْرِي بطَبْعها فِي ميدانِ المُخالَفَةِ
فالنِّعْمَةُ الَّتِي لاَ خَطَر لَهَا: الخروجُ مِنْهَا، والتَّخَلُّصُ مِن رِقِّها، فإِنَّها أَعظمُ حجابٍ بينَ العبدِ وبينَ اللهِ تعالى، وأَعرَفُ النَّاسِ بِهَا أَشدُّهُم إِزراءً عَلَيهَا، ومَقْتاً لَهَا
ومَقْتُ النَّفسِ فِي ذاتِ اللهِ مِن صفاتِ الصِّدِّيقينَ، ويدنو العبدُ بِهِ مِن اللهِ تَعَالَى فِي لحظةٍ واحدةٍ أَضعافَ أَضعافِ مَا يَدنو بالعملِ
وأيضاً : فإنّ زكاتها وطهارتها موقوفٌ على محاسبتها ، فلا تزكو ولا تَطْهُرُ ولا تَصْلُحُ ألبتَّة إلا بمحاسبتها
ومِن فوائِدِ محاسبةِ النَّفْسِ: أَنَّهُ يعرِفُ بذلك حقَّ اللهِ تعالى، ومَن لَمْ يَعْرِفْ حقَّ اللهِ تَعَالَى عَلَيهِ؛ فإِنَّ عبادَتَهُ لاَ تكادُ تُجْدِي عليهِ، وهي قليلةُ المنفعَةِ جدّاً
فمِنْ أَنْفَعِ مَا للقلبِ النَّظَرُ فِي حقِّ اللهِ عَلَى العبادِ؛ فإنَّ ذَلِكَ يورِثُهُ مَقْتَ نفسِه، والإزراءَ عَلَيْهَا، ويُخلِّصُه مِن العُجْبِ ورُؤيَةِ العملِ، ويفتَحُ لَهُ بابَ الخضوعِ والذُّلِّ والانكسارِ بينَ يدي ربِّهِ، واليأْسِ مِن نفسِهِ، وأَنَّ النَّجاةَ لاَ تحصُلُ لَهُ إِلاَّ بعفوِ اللهِ، ومغفرَتِهِ ورحمتِه، فإِنَّ مِن حقِّهِ أَنْ يُطاعَ وَلاَ يُعْصَى، وأَنْ يُذْكَرَ فلا يُنْسَى، وَأَنْ يُشْكَرَ فلا يُكْفَرَ
فَمَنْ نَظَرَ فِي هَذَا الحقِّ الَّذِي لربِّهِ عَلِمَ علمَ اليقينِ أَنَّهُ غيرُ مؤدٍّ لَهُ كَمَا ينبغي، وأَنَّهُ لاَ يسعهُ إِلاَّ العفوُ والمغفرةُ، وأَنَّهُ إِنْ أُحيلَ عَلَى عملِهِ هَلَكَ
فهذا محلُّ نظرِ أهلِ المعرفةِ باللهِ تَعَالَى وبنفوسِهم، وهذا الَّذِي أَيْأَسَهُم مِن أَنْفُسِهم، وعلَّق رجاءَهُم كلَّهُ بعفوِ اللهِ ورحمتِه
وإِذا تأَمَّلْتَ حالَ أَكثرِ النَّاسِ؛ وَجَدْتَهُم بضدِّ ذَلِكَ، ينظُرونَ فِي حقِّهِم عَلَى اللهِ، وَلاَ ينظُرونَ فِي حَقِّ اللهِ عليهِم، ومِن هاهنا انْقَطَعوا عن اللهِ، وحُجِبَتْ قلوبُهُم عن معرفتِه ومحبَّتِه والشَّوقِ إِلَى لقائِهِ والتَّنَعُّمِ بِذِكْرِهِ، وهذا غايةُ جهلِ الإنسانِ بربِّهِ وبنفسِهِ
فمحاسَبَةُ النَّفْس هِيَ نظرُ العَبْدِ فِي حقِّ اللهِ عَلَيهِ أَوَّلاً
ثُمَّ نَظَرَهُ: هَلْ قامَ بِهِ كَمَا يَنبغي ثانِياً
وأَفْضَلُ الفكرِ الفِكْرُ فِي ذَلِكَ، فإِنَّهُ يُسَيِّرُ القلبَ إِلَى اللهِ ويَطْرَحُهُ بينَ يديهِ ذَليلاً، خاضِعاً مُنْكَسراً كَسْراً فِيهِ جَبْرُه، ومفتقراً فقراً فِيهِ غِناهُ، وذليلاً ذُلاًّ فِيهِ عِزُّهُ، وَلَوْ عَمِلَ مِن الأعمالِ مَا عساهُ أَنْ يعْمَلَ؛ فإِنَّهُ إِذَا فاته هَذَا؛ فالذي فاتَهُ مِن البرِّ أفضلُ مِن الَّذِي أتى بِهِ
وأخيراً فينبغي على الواحد منا أنْ يجلس "عندما يريد النوم لله ساعةً يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يومه ، ثمّ يجدد له توبةً نصوحاً بينه وبين الله ، فينام على تلك التوبة ويعزم على أن لا يعاود الذنب إذا استيقظ ، ويفعل هذا كل ليلة ، فإن مات من ليلته مات على توبة وإن استيقظ استيقظ مستقبلا للعمل مسروراً بتأخير أجله ، حتى يستقبل ربه ويستدرك ما فاته وليس للعبد أنفع من هذه النومة ، ولا سيما إذا عقب ذلك بذكر الله واستعمال السنن التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند النوم حتى يغلبه النوم ، فمن أراد الله به خيراً وفقه لذلك ، ولا قوة إلا بالله