حال بقية العالم قبل البعثة:
أما لو تطرقنا إلي الوضع العالمي، فليست الحال بأفضل مما رأينا، فقد كانت الإمبراطوريتان السائدتان في ذلك الوقت هما إمبراطورية الفرس وإمبراطورية الروم، وكانت هاتان الإمبراطوريتان سيدتي العالم في ذلك الوقت، بلا منازع أو شريك.
انتشر الظلم والقهر في بلاد الروم؛ فكان الشعب أحوج ما يكون للمسة حانية تحتضنه، وراية عدل ترتفع في سمائه، لتزيح عنه عبء هذا الظلم.
كذلك انتشرت الحروب الخارجية والنزاعات الداخلية، نتيجة الجدل العقيم بين الفئات المختلفة داخل الدولة الرومية، مما أضعف هذه البلاد وجعل الفوضى تعم فيها، وكذلك السخط والحنق لما يمر به الشعب من قهر وظلم وانتهاك لبشريته وانتشار للمذابح في هذه البلاد.
كانت هذه البلاد تعيش في حالة من الظلم الشديد للشعوب؛ فقد فرضت الضرائب الباهظة على الشعوب الكادحة. أما الطبقة الحاكمة، فقد سبحت في بحور الملذات والترف والإسراف والانشغال بالملذات عن مصالح الشعوب.
كانت حال الشعوب في أوربا حالا عجيبة؛ فقد كانت تعيش في ظلمات الجهل والأمية، لا تعرف عن العلم شيئا. تسيطر الخرافات على تفكيرها. والمغالاة في بعض الأفكار هي طبيعتها. فقد كانوا (على سبيل المثال) يعقدون المؤتمرات لبحث حقيقة المرأة وطبيعتها وهل هي حيوان أم إنسان. وكانت أوربا تعيش أقصى حالات اللامبالاة بعدما اعتادوا على الخضوع والاستكانة.
أما في إيران، فقد كان الوضع على الدرجة نفسها من السوء. فقد كان هناك تمايز طبقي في ذلك المجتمع: طبقة تسيطر عل الموارد المالية وهي الطبقة العليا. أما بقية الشعب، فقد كانت ترضخ للمعاناة والفقر والحرمان، بل تتحمل أعباء بذخ هذه الطبقة على كاهلها. وكان الفقراء محرومين من أبسط حقوقهم الإنسانية، وكانوا يعيشون كالعبيد.
أما التعليم، فكان مقصورا على الأمراء والأثرياء فقط، وحرم باقى الشعب من حقه الطبيعي في اكتساب العلوم والمعارف، وعاش في أحضان الجهل.
وكانت الحكومة الفارسية في هذه المرحلة تعاني من الفوضى والاضطراب وعدم الاستقرار.
كذلك انتشرت الإباحية والفساد وحالات هتك الأعراض. وكان الملوك يعتبرون أنفسهم من نسل آخر مختلف عن البشر، ففيهم يجري دم الآلهة، ولهم الحرية في أن يفعلوا في الناس ما يشاؤون.
وكان العالم في ذلك الوقت يعيش تحت لواء الحروب المتواصلة بين الفرس والروم، كما كانت الحروب قائمة بين القبائل العربية، وكأن الحرب هي الملاذ الوحيد آنذاك للعيش في هذه الحياة!
سنوات طويلة من الحروب المتواصلة، والفقر والظلم والاستبداد والقهر للشعوب. فكانت هذه الشعوب قد فاض بها، وأصبحت في أمس الحاجة إلى نهر طاهر ترتوي منه، وتغسل فيه همومها، وعدل صارم، لا يجامل الأثرياء على حساب الفقراء.
هذه هي حال العالم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. كان العالم قد غلفه الجهل والظلم فأبي الله إلا أن يرسل من يزيح صخرة هذا الجهل والظلم ويكون منبعا للرحمة بالبشرية، فكان قدوم محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال ربه فيه وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.
كانت المجتمعات بالفعل مهيأة تماما لاستقبال رسالة جديدة أساسها الأخلاق الكريمة؛
رسالة العدل ركيزتها، والرحمة والأمانة واحترام بشرية الإنسان، دعائمها.
كان لا بد من الرحمة بهذا العالم الذي أرهقت المظالم كاهله. رحمة يبعث الله بها رجلا ذا خلق عظيم. فبعثه الله عز وجل لينير ظلمات الحياة، ولتشرق فيها شمس الأخلاق من جديد.
هذا الخلق الذي تمتع به ذلك الرجل، هو الذي باتت البشرية في حاجة ملحة للعودة إليه في هذا الزمان، بعدما وقع هذا الانهيار الأخلاقي الذي يغلف حياة إنسانية هذا اليوم.
لذلك، كان من البديهي أن يكون هناك تعريف بصاحب هذا الخلق وهذه الرسالة التي تحتاجها البشرية، وأن نلقي الضوء على الجانب الأخلاقي والإنساني في حياة رسول الأخلاق والرحمة والعدل محمد صلى الله عليه وسلم؛ الذي شهد له أعداؤه بدماثة الخلق وبالعظمة الإنسانية، والذي شهد له ربه قبل أي أحد بأنه صاحب أعظم خلق:
"وإنك لعلى خلق عظيم."